“رحلة العذاب من أجل كرتونة”.. حكاية مؤلمة للجوع في غزة

السكان يقطعون مسافات تصل إلى 10 كيلومترات سيراً على الأقدام من أجل الوصول إلى نقطة توزيع المساعدات الأمريكية في رحلة قد تنتهي بالموت.
تحت أشعة الشمس الحارقة التي انعكست على الإسفلت كنار مشتعل، سارت الأربعينية الفلسطينية “أم عمر إسليم” مسافة تزيد على 10 كيلومترات سيراً على الأقدام، من مدينتها خان يونس إلى مدينة رفح الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة، على الحدود المصرية، في محاولة يائسة للوصول إلى نقطة توزيع المساعدات الأمريكية.
على الطريق المليء بالحفر والحجارة، نتيجة القصف الإسرائيلي المتكرر خلال الأشهر الماضية، كانت خطوات “أم عمر” ثقيلة ومتعثرة، ترقب ظلاً تحتمي به من لهيب الظهيرة، أو جرعة ماء تبلل بها حلقها الجاف، لكنها لم تجد شيئاً، مضطرة، وبدافعٍ من غريزة الأمومة، واصلت المسير رغم الألم والخطر.
تقول “أم عمر” لموقع “الخليج أونلاين”: “قالوا لنا إن هناك مساعدات أمريكية توزع في رفح، فقلت لنفسي ربما أعود لأطفالي بكيس طحين أو علبة حليب تسكت جوعهم، لكنني لم أكن أعلم أن هذه العشرة كيلومترات ستكون أقسى من الجوع نفسه”.
لحظات مرعبة
“كانت الطريق إليها رحلة موت بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعشت لحظات من الرعب والموت أكثر من مرة. المكان بعيد جداً، والاحتلال يمنع دخول العربات أو سيارات الإسعاف، وحتى من يمرض أو يسقط في الطريق، يترك لمصيره، وأزيز الرصاص لا يتوقف، والمروحيات تحلق فوق رؤوسنا، والدبابات على مقربة منا، جاهزة لإطلاق النار عند أي حركة” تروى أم عمر.
لم تكن “أم عمر” وحدها في هذه الرحلة الشاقة، معها سار الآلاف من أبناء قطاع غزة، كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، في مشهد جماعي يشبه الهجرة القسرية، بعد أن سدت في وجوههم كل السبل، وكثيرون فقدوا منازلهم وأقاربهم،
واليوم يفقدون كرامتهم تحت شعار “مساعدات إنسانية”.
منذ مارس الماضي، لم تسمح سلطات الاحتلال بإدخال ولو ذرة قمح واحدة إلى القطاع المحاصر، والجوع أصبح واقعاً، والمساعدات المحدودة باتت تشكل طوق نجاة، وإن كانت تحمل معها خطراً يهدد الحياة.
حين وصلت “أم عمر” أخيراً إلى نقطة التوزيع في حي تل السلطان غرب رفح، كانت المفاجأة في انتظارها، فلم يكن هناك نظام، ولا آلية واضحة، بل فوضى عارمة، ومسلحون بملامح غريبة لا يتحدثون العربية، يصيحون في وجوه الناس، يدفعونهم، يهينونهم، كأنهم قطيع من الجوعى لا بشر.
الموت من أجل كرتونة
تحكي أم عمر لـ”الخليج أونلاين”: “رأيت الكرتونة الواحدة تتنازع عليها آلاف الأيدي، ولا أحد يعرف متى سيصل دوره، أو إن كان سيصل أصلاً، بينما تقف طائرات الدرون تراقب، وجنود الاحتلال على مقربة، يوجهون أسلحتهم نحونا وكأنهم يحرسون كرتونة الذل”.
وفي اليوم الأول لبدء الآلية الأمريكية لتوزيع المساعدات على سكان قطاع غزة، وثق المكتب الإعلامي الحكومي استشهاد 10 فلسطينيين وإصابة 62 آخرين، عند مراكز توزيع المساعدات في مدينة رفح خلال اليومين الماضيين.
إلى جانبها، كان محمد البشيتي، الشاب العشريني من خان يونس، بالكاد قادراً على الوقوف من شدة الإرهاق بعد ساعات من المشي والانتظار.
التقى مراسل “الخليج أونلاين” البشيتي بعد عودتهم من رحلة الموت، بينما كان يستند إلى جدار منهار، وجهه شاحب، وثيابه مغبرة.
يقول البشيتي: “سرت طوال الطريق على أمل أن أعود لوالدتي المريضة بشيء يسد رمقها، ولكن عندما اقتربت من نقطة التوزيع، تلقيت ضربة قوية بعقب بندقية أحد المرتزقة الأمريكيين، فقط لأنني حاولت الاقتراب من الطابور. طُردت، ولم أحصل على شيء”.
مأساة مستمرة
ويضيف: “بعد كل هذا العناء والمخاطرة، عدت خالي الوفاض، ورأيت شباناً يغمى عليهم، وأمهات يبكين، وأطفالًا يصرخون من العطش، وكثيرون عادوا أدراجهم، بعضهم سقط مغشياً عليه من شدة التعب، وبعضهم أقسم أنه لن يعود مجدداً، والجوع أهون من الإهانة”.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، ترتفع الأصوات المطالبة بضرورة تمكين المنظمات الدولية والإنسانية من استلام زمام إدارة المساعدات، بعيداً عن الشركات الأمنية الخاصة، التي تحول المشهد الإنساني إلى ساحة إذلال وقمع.
وانتقد المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني نظام توزيع المساعدات في قطاع غزة والمدعوم أمريكياً، واعتبره هدراً للموارد وإلهاء عن الفظائع.
وقال لازاريني خلال مؤتمر صحفي له الأربعاء 28 مايو الجاري: إن “توزيع المساعدات في 3 أو 4 نقاط يجبر سكان غزة على النزوح، في حين أنها كانت توزع من خلال 400 نقطة”.