في مرحلة دقيقة.. تفعيل مجلس التنسيق يعيد الزخم لعلاقات السعودية وتركيا

مسار التقارب الأخير يبدو مدفوعاً بإرادة سياسية عليا لدى الطرفين، لإعادة ضبط البوصلة نحو المصالح العليا.
تشهد العلاقات السعودية التركية منذ عام 2021 تحولاً لافتاً، بعد سنوات من التوتر السياسي والتباعد الدبلوماسي، والذي لم يكن وليد لحظة طارئة، بل نتيجة قراءة واقعية للمتغيرات الإقليمية والدولية، دفعت البلدين إلى إعادة تموضع استراتيجي يخدم مصالحهما في ملفات الأمن والطاقة والاقتصاد.
وفي ظل دينامية جيوسياسية معقدة في الشرق الأوسط، تسعى أنقرة والرياض إلى تعزيز قنوات التنسيق السياسي، بما يعكس فهماً مشتركاً لتحديات المرحلة ويؤسس لشراكات مستدامة، وهو ما يمثله مجلس التنسيق السعودي التركي، والذي يعد أحد أبرز أدوات إعادة هيكلة العلاقات الثنائية، إذ يوفر منصة مؤسسية منتظمة تُعنى بمتابعة ملفات التعاون في أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية.
وعلى الرغم من العقبات التي اعترضت العلاقات بين الجانبين، فإن مسار التقارب الأخير يبدو مدفوعاً بإرادة سياسية عليا لدى الطرفين لإعادة ضبط البوصلة نحو المصالح العليا، فتراجع الأدوار التقليدية لبعض القوى الغربية، والفراغات الأمنية الناشئة في المنطقة، دفعا البلدين إلى اختبار صيغ تعاون جديدة تتجاوز الخلافات القديمة، وتستند إلى مبادئ البراغماتية والتكامل الإقليمي.
اجتماع جديد
في سياق التعاون والتقارب، شهدت الرياض استقبالاً من قبل الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، لنظيره التركي هاكان فيدان، (17 مايو 2025)، حيث جرى بحث سبل تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، بالإضافة إلى مناقشة تطورات الأوضاع في المنطقة.
وعقب الاستقبال، ترأس الوزيران الاجتماع الثاني لمجلس التنسيق السعودي التركي، الذي ناقش آليات التعاون الثنائي، وسبل تعزيز التنسيق المشترك تجاه القضايا ذات الاهتمام المشترك.
وشدد الجانبان على أن الحوار الاستراتيجي بين البلدين يساهم في السلام والاستقرار الإقليمي، وأنه من المهم إظهار التضامن في مواجهة التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي، وسيؤكد على إرساء وقف إطلاق نار دائم في قطاع غزة وبدء جهود إعادة الإعمار.
وفي ختام الاجتماع، وقع الجانبان على محضر الاجتماع، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجال التدريب الدبلوماسي، بين معهد الأمير سعود الفيصل والأكاديمية الدبلوماسية بوزارة الخارجية التركية.
تأسيسه وأهدافه
أنشئ مجلس التنسيق التركي السعودي عام 2016 برئاسة وزيري خارجية البلدين، بهدف متابعة العلاقات الثنائية ووضع آليات للتعاون المشترك، وعقد اجتماعه الأول في عام 2017 بالعاصمة التركية أنقرة، فيما كان الاجتماع الثاني هو الذي عقد في الرياض منتصف مايو الجاري.
وجرى حينها الاتفاق على تفعيل الأطر التنفيذية للتعاون في المجالات المختلفة، وتعزيز الحوار المؤسسي بين المؤسسات الحكومية في البلدين، في وقتٍ يهدف المجلس إلى رفع مستوى العلاقات الثنائية في مختلف المجالات، من خلال وضع آلية مؤسسية للتعاون الثنائي، تشمل مجالات السياسة، والأمن، والاقتصاد، والطاقة، والثقافة، والتعليم، والدفاع.
وتسعى الرياض وأنقرة، من خلال هذا المجلس، إلى تنويع شراكاتهما في ظل نظام دولي يشهد تحولات متسارعة، وتراجعاً في الثقة بالحلفاء التقليديين. كما يعكس التعاون الجديد تقارباً في الرؤية حول الملفات الإقليمية، خاصة في السودان وليبيا، حيث يسعى الطرفان لتنسيق مواقفهما بما يمنع الانزلاق في صراعات طويلة الأمد.
ويعكس تفعيل هذا المجلس عمق التحول في نمط العلاقة بين الرياض وأنقرة، وانتقالها من حالة الجمود السياسي إلى دينامية مؤسسية قابلة للتطور والتوسع. ورغم التحديات القائمة، فإن مسار التعاون الجديد يشير إلى استعداد متبادل للانخراط في رؤية مستقبلية أكثر توازناً، تُراعي المصالح الاستراتيجية وتؤسس لتحالف إقليمي قد يعيد رسم معالم النفوذ في الشرق الأوسط.
خطوة مهمة
وفي هذا السياق، علق طه عودة أوغلو، الباحث السياسي والمستشار الإعلامي، في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، على هذا التطور قائلاً:
– زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان للمشاركة في الاجتماع الثاني لمجلس التنسيق السعودي التركي، الذي تأسس في فبراير 2017، تُعد خطوة مهمة جداً، وتمثل مقدمة لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين.
– هذه المرحلة تأتي في ظل التطورات الإقليمية والتوازنات السياسية التي تشهدها المنطقة، إضافة إلى تسارع الخطى بين أنقرة والرياض في العديد من المجالات، والتعاون المتزايد في قضايا سياسية واقتصادية وعسكرية متعددة.
– المرحلة القادمة من مسار العلاقات التركية السعودية ستشهد تطورات عديدة، مدفوعة بشكل رئيسي برغبة البلدين في تعزيز التعاون الإقليمي.
– تأتي هذه الرغبة في ظل تحديات وقضايا إقليمية معقدة، بدءاً من تداعيات حرب غزة، مروراً بحرب السودان، والتطورات في سوريا عقب رحيل نظام الأسد، وصولاً إلى تبعات الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت على كلا البلدين وعلى دول المنطقة بشكل عام.
– هذه الديناميكية الجديدة تعكس إدراكاً مشتركاً بين الرياض وأنقرة بأهمية التعاون والتنسيق المشترك لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية، وتعزيز الاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط، مما يبشر بعلاقات أكثر تماسكاً واستراتيجية بين البلدين في المستقبل القريب.
علاقة مختلفة
والعلاقات السعودية التركية مرت خلال العقد الماضي بعدة مراحل من التوتر، خصوصاً بعد 2011، مع تباين المواقف حيال الثورات العربية، والأزمة في سوريا، وقد بلغت الأزمة ذروتها بعد قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018، والتي ألقت بظلالها على التعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين.
غير أن التحول بدأ مع زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى جدة في أبريل 2022، تلتها زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إلى أنقرة في يونيو من العام نفسه، ومنذ ذلك الحين، أعيد فتح قنوات التواصل الدبلوماسي، وبدأت مشاريع استثمارية مشتركة في مجالات الدفاع، والطاقة، والبنية التحتية.
وفي عام 2023، تم توقيع اتفاقيات مهمة في مجالات الصناعات الدفاعية، مع إعلان شركة “روكيتسان” التركية عن مشروع مشترك في السعودية لإنتاج أنظمة دفاعية، كما شهدت الفترة نفسها ارتفاعاً ملحوظاً في التبادل التجاري بين البلدين، مع عودة الصادرات التركية إلى السوق السعودية بعد سنوات من التراجع.
ويُعد هذا الاجتماع تتويجاً لهذا المسار التصالحي، حيث وفر منصة مؤسسية لمتابعة التعاون في الملفات الاستراتيجية، بما في ذلك الأمن البحري في البحر الأحمر، واستثمارات الطاقة المتجددة، إلى جانب التعاون في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف.
وتمثل مذكرة التفاهم الأخيرة بشأن التدريب الدبلوماسي خطوة عملية نحو تطوير الكوادر الدبلوماسية، بما ينسجم مع أهداف المجلس في بناء شراكة استراتيجية طويلة المدى.