الاخبار

العلامات التجارية.. سلاح اقتصادي خليجي ورافعة تنموية مستدامة

لا يقتصر تأثير العلامة التجارية القوية على المبيعات فقط، بل يمتد ليشمل تعزيز الجاذبية الاستثمارية

في ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تبرز العلامة التجارية كأداة استراتيجية تعكس عمق التطور المؤسسي، وتلعب دوراً محورياً في بناء الثقة مع المستثمرين وتوسيع النفوذ الاقتصادي خارج الحدود الجغرافية التقليدية. 

ولا يقتصر تأثير العلامة التجارية القوية على المبيعات فقط، بل يمتد ليشمل تعزيز الجاذبية الاستثمارية، ورفع التصنيف الائتماني، وتوسيع فرص التصدير، لا سيما في الاقتصادات التي تسعى لتنويع مواردها وتقليص الاعتماد على العائدات النفطية.

الاقتصادات الخليجية، وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر، بدأت خلال العقد الأخير في إدراك أهمية القوة الناعمة الاقتصادية المتمثلة في العلامات التجارية الكبرى، وسعت إلى بناء هويات تجارية قادرة على المنافسة دولياً. 

توجه وأهمية

هذا التوجه ليس عشوائياً، بل هو جزء من رؤية شاملة تتقاطع مع خطط التحول الاقتصادي مثل رؤية السعودية 2030، وغيرها من الاستراتيجيات الوطنية التي تراهن على القطاع الخاص والتقنيات الحديثة كرافعة للنمو المستدام.

تتمثل أهمية العلامة التجارية في قدرتها على تصدير الثقة والاستقرار، وهما عاملان محوريان في قرارات المستثمرين العالميين، خصوصاً في الأسواق الناشئة. 

والعلامة القوية تختصر الكثير من الاعتبارات المتعلقة بالجودة والموثوقية والإدارة؛ ما يجعلها أحد أبرز محددات التدفقات الرأسمالية وتوسع الشركات نحو أسواق جديدة.

كما أن وجود علامات تجارية ذات وزن ثقيل في قطاعات غير نفطية يُعزز من صدقية برامج التنويع الاقتصادي ويمنحها غطاءً مؤسسياً يعزز من جاذبيتها على المدى الطويل.

تقرير حديث

ويظهر تقرير صادر عن شركة “براند فاينانس” الدولية، ونشرته وحدة التقارير في صحيفة “الاقتصادية” السعودية (25 مايو 2025)، أن السعودية تصدرت قائمة أكبر الشركات من حيث القيمة السوقية للعلامات التجارية في منطقة الشرق الأوسط هذا العام. 

وبحسب التقرير، استحوذت السعودية على 64 علامة تجارية ضمن التصنيف الإقليمي، ما يمثل 43% من إجمالي 150 علامة مشمولة بالتقرير.

كما هيمنت المملكة على نصف قائمة العشرة الكبار من حيث العدد، وعلى 57% من القيمة السوقية الإجمالية لهذه العلامات، بما يعادل 75.5 مليار دولار (نحو 283 مليار ريال سعودي) من أصل 132.3 مليار دولار.

وجاءت شركة “أرامكو” السعودية في الصدارة للعام السادس على التوالي، بقيمة علامة تجارية بلغت 41.7 مليار دولار (نحو 156 مليار ريال)، ما يمثل نحو 32% من إجمالي قيمة العشرة الكبار.

وتلتها شركة الاتصالات السعودية “STC” في المركز الثالث بقيمة 16.1 مليار دولار، ثم مصرف الراجحي في المركز السابع بقيمة 7.5 مليار دولار، يليه البنك الأهلي السعودي بـ5.3 مليارات دولار، وشركة “سابك” بـ4.9 مليارات دولار.

الإمارات جاءت في المرتبة الثانية، بعدد 43 علامة تجارية تمثل 29% من إجمالي العلامات، وشملت قائمة العشرة الكبار ثلاث شركات إماراتية بارزة: “أدنوك” (19 مليار دولار)، و”اتصالات” (15.3 مليار دولار)، و”طيران الإمارات” (8.4 مليارات دولار).

أما قطر، فحلت في المرتبة الثالثة بعدد 14 علامة تجارية تمثل 9% من الإجمالي، وكانت أبرز علاماتها بنك قطر الوطني “QNB” بقيمة 9.4 مليارات دولار، وجاءت الكويت في المركز الرابع بعدد مساوٍ من العلامات، وكان أبرزها مؤسسة البترول الكويتية بقيمة 4.7 مليارات دولار.

نجاح استراتيجيات

المحللة الاقتصادية حنين ياسين، وفي تصريح لـ”الخليج أونلاين”، ترى أن تصدر السعودية والإمارات لتقرير “براند فاينانس 2025” يعكس بوضوح نجاح استراتيجيات التحول الاقتصادي التي انتهجتها دول الخليج في السنوات الأخيرة، خصوصاً فيما يتعلق بتمكين القطاع الخاص، وتحسين البيئة التنظيمية، وتعزيز الابتكار كعنصر أساسي في بناء الاقتصاد.

وأوضحت أن النمو الكبير في القيمة السوقية للعلامات الخليجية يشير إلى تحول ملموس من نموذج اقتصادي ريعي تقليدي يعتمد على الموارد الطبيعية إلى نموذج متنوع وأكثر استدامة، يقوم على الخدمات والتكنولوجيا والتوسع الإقليمي والدولي للعلامات الوطنية.

وأضافت أن استحواذ العلامات السعودية على 43% من مجمل العلامات التجارية المُدرجة في التصنيف، يعكس الزخم المتنامي الناتج عن برامج “رؤية 2030″، بينما حققت العلامات الإماراتية نمواً بنسبة 22% بفضل دمج التكنولوجيا المتقدمة والتسويق الرقمي، خصوصاً في قطاعات مثل الطاقة والاتصالات والطيران، ما منحها حضوراً تنافسياً يتجاوز النطاق الإقليمي.

وأشارت إلى أن هذا الصعود لا يعبّر فقط عن نجاح دعائي للعلامات، بل يمثل انعكاساً حقيقياً لاستقرار بيئة الأعمال، وجودة التشريعات، وكفاءة الحوكمة المؤسسية، وهو ما يعزز ثقة المستثمرين الأجانب، ويقلل من مستويات المخاطرة، ويفتح المجال أمام تدفقات رأسمالية طويلة الأمد، وشراكات استراتيجية في قطاعات البنية التحتية والخدمات والتصنيع.

كما اعتبرت أن بروز علامات من دول مثل قطر والكويت ومصر في التقرير يمثل تطوراً إيجابياً، “لكنه ما زال يتطلب دفعة أكبر على صعيد دعم الابتكار، وتمكين الشركات المحلية من التوسع في الأسواق العالمية، وتطوير صناعات تحويلية ذات قيمة مضافة”.

وأضافت أن “العلامة التجارية القوية باتت اليوم أداة قياس اقتصادية دقيقة تعكس نضج السوق وقدرتها على مواكبة التغيرات العالمية، كما أنها تسهم في رفع التصنيف الائتماني للدول وخفض كلفة التمويل، وتُستخدم كوسيلة ضغط تفاوضية في اتفاقيات التجارة والاستثمار الدولية”.

وختمت حنين ياسين تصريحها بالتأكيد على أن دول الخليج باتت تدرك أن بناء علامات تجارية وطنية قوية ليس مجرد عملية تسويقية، بل رافعة استراتيجية تُمكّن من تحويل الشركات المحلية إلى كيانات إقليمية وعالمية، مشيرة إلى أن هذا التوجه يعزز من أدوات القوة الاقتصادية الناعمة، ويمنح دول المنطقة موقعاً تنافسياً فاعلاً ضمن سلاسل القيمة العالمية.

هيمنة خليجية

يعكس هذا التوزيع الهيمنة الخليجية على المشهد الإقليمي للعلامات التجارية، حيث تمثل دول مجلس التعاون نحو 90% من إجمالي القيمة السوقية للعلامات العشر الكبرى، وهو ما يعزز موقعها كوجهة استثمارية رائدة في المنطقة.

والقيمة السوقية للعلامة التجارية لا تقتصر على كونها رقماً مالياً، بل تمثل مؤشراً مركباً يشمل جودة المنتج أو الخدمة، ورضا العملاء، واستدامة الأداء المالي، والقدرة على التوسع في أسواق جديدة. 

وفي هذا الإطار، تمثل هذه العلامات الخليجية واجهة اقتصادية تعكس ديناميكيات الإصلاح الاقتصادي، وكفاءة الحوكمة، والقدرة على التكيف مع التحولات العالمية في التكنولوجيا والتمويل والطاقة.

كما تساهم العلامات التجارية القوية في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كونها توفر بيئة من الثقة المؤسسية التي يبحث عنها المستثمرون عند تقييم فرص الدخول إلى الأسواق. كذلك، فإنها تفتح آفاقاً جديدة للصادرات غير النفطية، من خلال بناء سمعة مؤسسية قابلة للتسويق في الأسواق الخارجية، وهو أمر جوهري لخطط تنويع الصادرات الخليجية.

وتعتمد الشركات الخليجية الكبرى على استراتيجيات تسويق مدروسة لتعزيز قيمة علاماتها، تشمل الاستثمار في الابتكار، وخدمة العملاء، والبنية التحتية الرقمية، إضافة إلى التوسع الإقليمي والدولي. 

ولعل دخول علامات مثل “أرامكو” و”STC” و”أدنوك” و”طيران الإمارات” إلى قوائم أقوى العلامات العالمية، يؤكد أن هذه الشركات باتت تنافس نظيراتها في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية.

وتشير هذه المؤشرات إلى أن دول الخليج باتت تدرك أن العلامة التجارية لم تعد مجرد شعار، بل أصل اقتصادي استراتيجي يمكن تعظيمه وإدارته بفعالية لزيادة العائد على الاستثمار وتعزيز القوة التنافسية على المستوى الدولي.

الدور الحكومي 

ويبرز دور المؤسسات الحكومية الخليجية في دعم العلامات الوطنية، سواء عبر الترويج لها في المحافل الدولية أو عبر الدعم التمويلي والتشريعي الذي يمنحها مرونة في الأسواق العالمية. 

وقد أسهمت هذه السياسات في دعم شركات خليجية كي تحقق قفزات نوعية في قيمة علاماتها، كما في حالة “QNB” في قطر، أو مؤسسة البترول الكويتية، التي نجحت في الحفاظ على موقعها رغم التحديات العالمية في قطاع الطاقة.

من جهة أخرى، يعكس صعود العلامات التجارية الخليجية تحولاً في موازين القوة الاقتصادية في المنطقة، حيث أصبحت الشركات الخليجية قادرة على مضاهاة نظيراتها في الاقتصادات الكبرى، ليس فقط من حيث الإيرادات، بل أيضاً من حيث المكانة المؤسسية والانتشار العالمي.

ويُتوقع أن تشهد السنوات القادمة صعوداً متزايداً في عدد وقيمة العلامات الخليجية، مدفوعة بالتحول الرقمي والاستثمار في البنية التحتية والمعايير البيئية والاجتماعية، ما سيجعل من المنطقة واحدة من أبرز القوى الصاعدة في الاقتصاد العالمي من بوابة القوة الناعمة التجارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى