قصص من الحج.. حين تنتصر النية الصادقة على المستحيل

ما بين طموح الليبي عامر المنصور، وصبر عبدي الكيني، وعطاء المعالج سعيد، وإيمان الشيخ الغاني، وضوء الحلم الذي أنار قلب القسّ الجنوب أفريقي، تتشابك الخيوط في موسمٍ لا يُشبه أي موسم.
في مطار سبها الدولي، جنوب ليبيا، وبين الوجوه المتلهفة لعبور السماء نحو البيت الحرام، كان عامر المنصور واقفاً وحده، بعد أن صعد الجميع إلى الطائرة، فيما ظل هو ينظر إلى البوابة المغلقة، وإلى السماء الملبدة بانتظار قدره.
قال له ضابط المطار إن جوازه يحتوي على “مشكلة أمنية”، وإن اسمه قد شُطب من قائمة الحجاج، لكنه لم ينهزم حين رفع يديه، وأخذ يتمتم بإيمان صلب: “إن شاء الله لن تقلع حتى أركبها، أنا نيتي الحج، وربي لن يضيعها”.
ما لم يكن يتوقعه أحد، حدث مرتين؛ فالطائرة التي أقلعت عادت بسبب خلل فني، ثم أقلعت من جديد وعادت للمرة الثانية، عندها، قال الطيار: “والله لن أقلع حتى يصعد عامر”.
وهكذا، بقدرٍ بدا وكأنه كتب خصيصاً له، صعد عامر أخيراً، وطار قلبه قبل جسده نحو مكة، حيث تتحقق أماني من لا يملك إلا اليقين.
قصة عامر المنصور التي وقعت خلال الأيام الماضية، ليست سوى واحدة من عشرات القصص التي لا تشبه الأخبار، بل تشبه المعجزات.
ففي موسم الحج، لا تُقاس المسافات بالكيلومترات، بل بالقلوب التي مشَت على الأمل، والعزائم التي حملها الإيمان على أجنحة الدعاء.
رؤيا غريبة
في جنوب أفريقيا، كان إبراهيم ريتشموند، وهو قسٌ مسيحيٌ معروف، يتلقى رؤىً غريبة في نومه حيث صوت يأمره بأن يرتدي وجماعته اللباس الأبيض، لباس المسلمين، الذي يرتدونه في الحج.
استمرت الرؤيا حتى خرج إلى أتباعه في كنيسته، ودعاهم لما رآه فلبّوا، وارتدوا جميعاً ثياب الإحرام، ونطقوا الشهادة جماعة، في مشهد لا يُنسى.
وبعد ثلاثة أشهر فقط، وقف إبراهيم على صعيد عرفات في حج العام 2023، يلهج بالدعاء، لا بصفته قسّاً، بل حاجاً جديداً، غيّرته رؤيا صادقة.
حج مجاني
ومن داخل أفريقيا أيضاً، ومن قرية نائية في غانا، كان العجوز الحسن عبدالله، البالغ 82 عاماً، يمازح طاقم تصوير تركي حين رأى طائرتهم الصغيرة “درون” تحلق للتصوير قائلاً: “هل تستطيعون أن تصنعوا واحدة تنقلني إلى مكة؟”.
كانت مزحة، لكن صداها عبر الإنترنت جعلها حقيقة حين تبرع شرطي تركي بدفع تكلفة حج الحسن بالتواصل مع سفارة بلاده في غانا بتسهيل من وزير خارجية تركيا آنذاك مولود جاويش أوغلو، وكل ذلك من أجل أن يحقّق شيخ فقير أمنيته.
ذهب العجوز الغاني إلى الحج عام 2017 مجاناً وعاد وفي قلبه امتنان لا حدود له.
ليست كل القصص تُروى بأفراح مكتملة؛ أحياناً تكون النهاية في مكة هي أجمل ختام.
الحاج الكيني عبدي عزيز أدن، شاب في الثالثة والعشرين مصاب بالسرطان، عرف منذ أن بُترت ساقه أن النهاية تقترب لكنّه كان يريدها على أرض الحرمين.
لم يطلب معجزة، بل فقط كانت أمنيته “أن أرى الكعبة بعيني”.
ولبّى آلاف الكينيين نداءه وجمعوا له المبلغ المناسب، فحج، وبكى، وسجد، ثم عاد ومات، لكنه مات حاجاً؛ وهذا وحده يكفي ليبقى اسمه نبراساً للذين لا يفقدون الأمل.
تضحية ومكافأة ربانية
في قصة أخرى تنعش القلب بما فيها من كم من التضحية والإنسانية، بطلها معالج فيزيائي يدعى سعيد كان يستعد لأداء الحج بعد ثلاثين عاماً من ادخار مبلغ الحج.
لكنه سعيد رأى أماً تجرّ ابنها المشلول وتخرجه من المستشفى لعدم تمكنها من دفع نفقات علاجه، تبرع بمبلغ الحج لعلاج الطفل.
في اليوم التالي، جاءه عرض غير متوقع من مالك المستشفى للحج مجاناً، ومعه مكافأة. وحين حكى قصته لثري قابله بعد رحلة الحج تكفّل هذا الثري بعلاج الطفل فاتحاً له ولأسرته باباً جديداً للحياة.
كثيراً ما تتغلب النوايا الصادقة على المال، وهو ما يؤكد أن صفاء النية ونقاء السريرة تكتب نهاية كل مشوار.
هذا ما يلخص قصة أبطالها 14 رجلاً اجتمعوا في مسجد قريتهم بأحد مناطق صعيد مصر، وأكدوا انهم جمعوا المبلغ الكافي الذي سيمكنهم من تحقيق أمنيتهم بأداء الحج.
لكن رجلاً فقيراً لا يملك مالاً كان يريد أن يرافقهم للحج ورفضوا ذلك لعدم استطاعته جمع المبلغ المطلوب.
وفي المنام رأى كبيرهم أن حجهم لن يُقبل إن لم يُرافقهم هذا الفقير فأخبر أصدقائه فجمعوا له المال وذهب معهم ولم يقم بأي عمل يطلبونه منه، وفي كل لحظة كان يردد: “أنا ضيف الله”.
وعاد الرجل من الحج وهو أغني من معه، بعدما جمع له الناس من السفينة التي نقلتهم صدقات لا تُعد حين علموا بقصته، فكان قد دخل مكة فقيراً، وخرج غنياً بالمال وببركة الحج.
أمنية الموت بمكة
ويبقى الحج أمنية العمر، لكن أن تُدركك المنية وأنت فيه، فذلك شرف لا يُنال بسهولة.
ذلك ما حصل للحاج السوري محمد قاسم الحامد، ابن الثمانين عاماً، الذي باع منزله لإكمال مسجد، ثم ذهب إلى الحج عام 2023 وهو يقول: “سأموت في مكة” بحسب ما يروي ولده.
مات الحاج السوري في أحد مستشفيات مكة، وصُلّي عليه في الحرم، ودفن في أرض طالما حلم أن يُبعث منها.
لكن وصيته التي سجّلها بصوته أبكت الآلاف؛ حيث أوصى ببيع أراضيه لإتمام بناء المسجد، ووقف منزله لوجه الله.
معجزة استجابة الدعاء
وكم في مناسك الحج يقبل أناس من شتى أصقاع الأرض لهم كرامة عند ربهم، يُعرفون باستجابة دعواهم.
ومن بين ما اشتهر في هذا الشأن ما رواه أمير سعودي وأحد كبار مشايخ السعودية، لم يكشف عن اسمهما رواة القصة، حول الرجل المسن مجاب الدعوة في منى.
كان ذلك حين خرج الأمير السعودي من مخيمه رافضاً اصطحاب مرافقيه وأخذ يسير حتى وجد شيخاً مسناً جالساً على صخرة، فسأله المسن: “هل جئتَ باللحم؟” مبيناً أنه دعا ربه أن يرسل له طعاماً.
فاتصل الأمير بمرافقيه وطلب وجبة طعام دسمة، أكل الشيخ، ودعا بعدها بشاي بالنعناع ولم يكن في المكان من أحد، فجاء حجاج سوريون فقدموا له الشاي بالنعناع بعد أن أعطاهم ما بقي من وجبة الطعام الدسمة.
وحين نعس طلب مخدة لينام، فمر حجاج مغاربة وجلسوا قليلاً واعطوه مخدة، وحين وضع عليها طلب نسمة هواء فهب نسيم عليل.
ما بين طموح الليبي عامر المنصور، وصبر عبدي الكيني، وعطاء المعالج سعيد، وإيمان الشيخ الغاني، وضوء الحلم الذي أنار قلب القسّ الجنوب أفريقي، تتشابك الخيوط في موسمٍ لا يُشبه أي موسم.
ذلك هو الحج الذي طالما تأكد لنا أنه ليس فقط طوافاً وسعياً، بل طقساً إنسانياً عظيماً، يُعيد للروح معناها، وللأمل مكانه، وللبشرية وجهها الحقيقي.